"خديجة بنت خويلد" النسوية الأولى بالإسلام.. ساوت بين الجنسين في طلب الزواج وعملت بالتجارة
حقوقيات في زمن النبوة "1"
لم تكن خديجة بنت خويلد مجرد امرأة قرشية، وإنما كانت زعيمة وقائدة، ترسي بفطرتها وتنشر بأفعالها ثلاثية "الحق والخير والجمال".
أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين، كانت أول من آمن بالنبي من النساء والرجال، وهي من طلبته للزواج ضاربة مثالًا صارخًا في القوة والثقة بالنفس، أرست بفعلها مبدأ المساواة بين الجنسين في حق طلب الزواج في الإسلام، أي قبل ما يزيد على 1400 عام، كما مارست حق الامتلاك والتجارة والذمة المالية المستقلة عن الرجل، إلى جانب احتضانها أولادها من زوجها الأول وتربيتهم، وجميعها حقوق اقتنصتها النسوية الحديثة في القرن التاسع عشر.
كانت أم المؤمنين خديجة ذات عقل راجح وروح واسعة، ذات هيبة ترى في نفسها وغيرها من النساء ما يجعلهن شقائق الرجال، ولذا عندما جاء زوجها محمد بن عبدالله يطلب من قلبها الدفء ويبث لها نبأ نزول الوحي، آمنت به وصدقت رسالته القائمة على العدل وتعزيز مكانة الإنسان وتكريمه للمرأة وجعلها شريكة للرجل في كل مناحي الحياة.
جاء ذلك قبل موجات النسوية التي شهدها الغرب، فوفقًا للمراجع كانت فترة نشاط الموجة النسوية الأولى خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، في المملكة المتحدة والولايات المتحدة ركزت الموجة على تعزيز المساواة في العقود والزواج والأبوة وحقوق الملكية للمرأة، وتضمن التشريع الجديد قانون حضانة الأطفال 1839 في المملكة المتحدة، الذي أدخل مبدأ سنوات العطاء لحضانة الأطفال ومنح النساء حق حضانة أطفالهن لأول مرة.
وأصبحت التشريعات الأخرى نماذج لتشريعات مماثلة في الأراضي البريطانية، مثل قانون ملكية المرأة المتزوجة 1870 في المملكة المتحدة ومُدِدَ في قانون ملكية المرأة المتزوجة 1882، وأقرت مستعمرة فيكتوريا تشريعًا في عام 1884 ومستعمرة نيوساوث ويلز تشريعا في عام 1889، وأقرت المستعمرات الأسترالية المتبقية تشريعات مماثلة بين عامي 1890 و1897.
ريادة خديجة الدينية
حين حاصر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وآل طالب وغيرهم من أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، بعد أن تحالفوا فيما بينهم ألا يبيعوا للمسلمين وأقارب الرسول شيئا، ولا يشتروا منهم شيئا، ولا يزوجوهم ولا يتزوجوا منهم، وأن تقطع كل العلاقات بينهم وبينهم.
تنجح خديجة في قطع الحصار، وترسل بجمال محملة طعاما وشرابا للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وواضح من خلال السياق أن خديجة كان لها من الحماية ما لم يكن لغيرها من الرجال والنساء.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم دائم الاستشارة لها فيما يخصه من أمور، حتى كلل الله تعالى جهادها وقيادتها بما أعد لها في الجنة من المنزلة العظيمة، بل ينزل جبريل عليه السلام يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقرئ خديجة السلام، ويبشرها ببيت في الجنة، وكفى بذلك تقديرا لعملها وجهادها.
أزواجها قبل النبي
كانت تلقب بالطاهرة في الجاهلية، ولدت في بيت مجد وسؤدد قبل عام الفيل بخمسة عشر عامًا، ونشأت في بيت من البيوت الشريفة فغدت امرأة عاقلة جليلة، اشتهرت بالعزم والعقل والأدب الجم، لذلك كانت محط أنظار كبار الرجال من قومها.
تزوجت -قبل النبي صلى الله عليه وسلم- بأبي هالة التميمي فأنجبت منه هالة وهند، ثم مات فتزوجها عتيق بن عائذ المخزومي فلبثت معه فترة من الزمن ثم افترقا، وقيل إنه مات عنها.
ثم تقدم لها بعد ذلك كثيرون من أشراف قريش لكنها آثرت الانصراف لتربية أولادها وإدارة شؤون حياتها، حيث كانت غنية ذات مال.
تجارة النبي بمال خديجة
كانت رضي الله عنها امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم" أي يتاجرون في مالها ولهم حصة معينة من الربح".
وفقًا لكتب السيرة، عندما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه وعرضت عليه أن يتاجر لها في مالها ويخرج إلى الشام مع غلام لها اسمه مسيرة، ثم عرضت عليه خديجة أن يتزوجها فتزوجها عليه الصلاة والسلام، وكان سنها 40 سنة ومكثت عنده 24 سنة وتوفيت ولها 64 سنة وشهور.
وضربت أروع الأمثال وأعظمها في إخلاصها ومحبتها للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فعندما رأت أنه يحب مولاها زيد بن حارثة وهبته له، ولما أحست أنه يحب أن يضم أحد أبناء عمه أبي طالب رحبت بذلك وأفسحت لعلي رضي الله عنه المجال الأوفر ليكتسب من أخلاق زوجها محمد صلى الله عليه وسلم، ورزقت منه البنين والبنات: القاسم، وعبدالله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
هي والنبي
قال عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء".
وتزوجت النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل البعثة بخمسة عشر عامًا، وكان عمرها 40 عامًا، وكان عمر سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام 25 عامًا، وأنجبت السيدة خديجة أبناء سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، جميعًا ما عدا إبراهيم، وهم: السيدة زينب، والسيدة رقية، والسيدة أم كلثوم، والسيدة فاطمة، والقاسم، وعبدالله، ولما نزل الوحى على رسول الله في غار حراء خاف الرسول وفزع فزعًا شديدًا، وعاد إلى السيدة خديجة مسرعًا يرتعش، فقامت السيدة خديجة، رضي الله عنها، وغطته من فورها، ولما سمعت ما حدث قالت له: «كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».
ثم أخذته لابن عم لها يدعى ورقة ابن نوفل، وكان يعبد الله وكان عنده علم من التوراة والإنجيل، فبشر النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه خاتم المرسلين، فكانت أول من آمن بالرسالة، وعملت على دعم الرسول عليه الصلاة والسلام، وتحملت معه مصاعب الدعوة.
وعندما فرضت قريش الحصار على المسلمين في شعب بني هاشم، رفضت السيدة خديجة أن تترك الرسول، صلى الله عليه وسلم، وظلت معه في الشعب ثلاث سنوات، تحملت فيها الجوع والتعب، وبعد فك الحصار مرضت حتى توفاها الله قبل الهجرة بثلاثة أعوام، وقد بشّر جبريل، عليه السلام، سيدنا محمد ببيت من قصب للسيدة خديجة، رضي الله عنها، في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب، وظل الرسول، عليه الصلاة والسلام، يذكرها بعد وفاتها، فكان يبرّ صديقاتها.
من فضائلها رضي الله عنها
لسيدة نساء العالمين فضائل جمة، أولها سلام الله عليها على لسان جبريل: أتى جبريل عليه السلام رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وجاء في “البداية والنهاية” عند ابن كثير: (قال السهلي: وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب -قصب اللؤلؤ- لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان)، لا صخب فيه: لأنها لا ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نصب: ولم تتعبه يومًا، فلم تصخب عليه يومًا ولا آذته يومًا.
وفاة خديجة أم المؤمنين
توفّيت السيدة خديجة في السنة العاشرة من البعثة، بعد المقاطعة التي كانت لبني هاشم، وكانت قد بلغت من العمر حينها خمساً وستين سنةً، ودُفنت في مقبرة الحُجون.
ووفقًا لكتب السيرة، دفنها الرسول، إلّا أنه لم يصلِ عليها إذ لم تكن صلاة الجنازة مشروعةً، وكان ذلك بعد وفاة عمّ الرسول أبي طالب بمدةٍ قصيرةٍ، فذكر الحاكم أنّها توفيت بعده بثلاثة أيامٍ، وقيل بشهرين وخمسة أيامٍ كما نقل ابن الجوزي، وسمّي ذلك العام بعام الحزن؛ لما كان فيه من تتابع الأحزان على النبي؛ بموت عمّه ثمّ زوجته.
ومن صور وفاء النبي -عليه الصلاة والسلام - لأمّ المؤمنين خديجة، أنّه كان كثير الذكر لها، وذكر مواقفها في شدّته، والثناء عليها، ومدحها بعد وفاتها أمام زوجاته، وفي ذلك تروي عائشة رضي الله عنها: (كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عليها، فأحسَنَ الثناءَ، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقُلْتُ: ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها، قال: ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ).